همسات من الجحيم

في أحد الأيام الباردة من فصل الشتاء، كان هناك شاب يُدعى “يوسف”. كان يعيش في أحد الأحياء القديمة التي تحيط بها الأشجار الكثيفة والمباني المهجورة. كان يوسف مغرمًا بالقصص المخيفة عن الجن والأرواح، وكان يقضي أوقاته في قراءة الكتب التي تتحدث عن العوالم المظلمة والمخلوقات غير المرئية.

الذي كان يقع على أطراف البلدة. كان الجميع يتجنبون الاقتراب منه، ويقال إنه كان مسكونًا بالأرواح الشريرة والجن. لم يكن أحد يعلم ما الذي يحدث هناك، لكن الشائعات كانت كثيرة.

لم يكن يوسف يؤمن بهذه القصص، فقد كان يعتبرها مجرد خرافات لا أساس لها من الصحة. ومع ذلك، كان لديه فضول لا يقاوم لاستكشاف هذا المكان المظلم.

في ليلة باردة، عندما كانت الرياح تعصف بالأشجار والأمطار تتساقط بغزارة، قرر يوسف أن يذهب إلى هذا المنزل. أخذ مصباحًا يدويًا وبعض الأدوات التي قد يحتاجها، وانطلق في طريقه. كانت الطرقات مهجورة، والأضواء الوحيدة تأتي من اللمسات المتقطعة للبرق في السماء.
وصل يوسف إلى المنزل القديم بعد ساعة من السير في الظلام، وكان المبنى يبدو مهدمًا ومهجورًا. كانت النوافذ مغلقة بألواح خشبية قديمة، وكانت الأبواب مغطاة بالغبار

كانت الحديقة التي تحيط بالمنزل شبه متروكة، تعلوها الأعشاب البرية التي نمت بشكل فوضوي، وكأنها تحاول طمس آثار المكان. الأشجار الضخمة التي كانت تحيط بالمكان كانت عارية في الشتاء، وفروعها الجافة تتدلى إلى الأسفل، مغطاة بطبقة من الطحالب. كان الزهور التي كانت تزين الحديقة قد ذبلت منذ زمن طويل، وصارت الأرض مليئة بالأشواك والحشائش اليابسة التي تكاد تخنق كل شيء.

كان المنزل المهجور يقف كجثة صامتة على أطراف البلدة، حيث تسللت إليه عوامل الزمن والتقلبات الجوية بشكل قاسي، ليتركه في حالة من الخراب العميق. كان يبدو كأن الزمن قد توقف فيه، كما لو كان كل شيء في الداخل قد تجمد في لحظةٍ مظلمة، ينتظر شيئًا ما… ربما العودة، أو ربما النهاية.

كان المنزل مبنيًا من الطوب الأحمر الذي تآكل بفعل الرطوبة والطقس القاسي، وأصبح لونه باهتًا شاحبًا مع مرور السنوات. كانت جدرانه مليئة بالشقوق العميقة التي كأنها تشهد على مئات السنين من المعاناة. بعض الألواح الخشبية التي كانت تغطي النوافذ أصبحت مائلة ومكسورة، وبعضها سقط تمامًا على الأرض، تاركًا نوافذ فارغة بلا حياة، كعيون ميتة تراقب العالم الخارجي.

كان الباب الأمامي ثقيلًا ومصنوعًا من الخشب المظلم المتآكل، مع حواف مهشمة بفعل العوامل الطبيعية. كان يبدو وكأنه قد تحمل العديد من الحكايات القديمة، لكن لم يعد يحتفظ بأي قوة ليفتح بسهولة. وعندما كان يفتح، يصدر صوتًا حادًا، كأنها صرخات خافتة لمخلوق قديم. وفي أحيان كثيرة، كان يُغلق فجأة دون سبب واضح، كما لو كان هناك قوة غير مرئية تمنعه من الانفتاح بالكامل.

دفع يوسف الباب الأمامي ببطء، ودخل بحذر. كان الداخل مظلمًا تمامًا، وعندما أضاء مصباحه اليدوي، اكتشف أنه كان مليئًا بالغرف المهجورة والأثاث المتداعي. كان صوت خطواته يملأ المكان، ويصدح في أرجاء المنزل كما لو كان يوقظ شيئًا دفينًا.
عندما دفع يوسف الباب الثقيل ودخل إلى المنزل القديم، اجتاحت قلبه مشاعر مختلطة بين الفضول والخوف، لكن تلك المشاعر كانت تتراكم بشكل أسرع من قدرته على فهمها. في البداية، لم يشعر بشيء مميز سوى الصمت الرهيب الذي يحيط به، لكن مع كل خطوة كان يخطوها داخل هذا المكان المهدم، كان شيئًا غير مرئي يزداد ثقلاً في جوفه، وكأنما الهواء نفسه قد تحول إلى حمولة ثقيلة من القلق
شعر بشيء غريب في قلبه، وكأن هناك عينين تراقبانه من الظلام. في إحدى الغرف، اكتشف يوسف لوحة قديمة معلقة على الجدار. كانت الصورة لرجل وامرأة، لكن عيونهما كانت خالية من الحياة، وكأنهما فارغتان من أي مشاعر.


عندما دخل إلى الداخل، كانت أول ما لفت انتباهه تلك الهمسات الخافتة التي تملأ المكان، كأن هناك أصواتًا تردد في زوايا المنزل، لكنها كانت غير واضحة، مجرد همسات غير مفهومة. شعر وكأن المكان نفسه يراقبه، ينظر إليه من كل زاوية، كأن الجدران نفسها تحمل أسرارًا قديمة تتمنى أن تُكشف. كان يهمس لنفسه محاولًا إقناع عقله بأن هذه مجرد خرافات، وأنه ليس هناك شيء يستحق الخوف.

لكنه شعر بشيء غريب يعكر صفو عقله. كان الضوء الخافت من مصباحه اليدوي يرقص على الجدران المتهالكة، بينما كل زاوية وكل غرفة كانت تخفي المزيد من الظلال التي تتراقص في عينيه، وتزيد من شعوره بالضياع في هذا المكان المظلم. لم يكن يعرف إلى أين يذهب، ولا كيف يخرج من هذا المتاهة التي تبدو وكأنها لا نهاية لها.

فجأة، سمع صوت همسات خفيفة تأتي من الزوايا المظلمة. همسات غير واضحة، لكنها كانت تزداد قوة مع مرور الوقت. حاول يوسف تجاهلها، ولكنه بدأ يشعر بشيء غريب في معدته، كما لو كان هناك ضغط ثقيل على قلبه.

ثم، وبلا مقدمات، بدأ المصباح اليدوي في الاهتزاز بشكل غير طبيعي، وكأن يدًا غير مرئية كانت تحاول سحبه. صرخ يوسف وركض نحو الباب، لكنه فوجئ بأن الباب أغلق من تلقاء نفسه. كان المكان غارقًا في الظلام الآن، والمصباح انطفأ فجأة.

كاد قلبه ان يتوقف من شدة الرعب وشعر ببرودة شديدة تسري في جسده وكأن روحه سوف تغادر جسده من كثرة الرعب

في تلك اللحظة، ظهرت أمامه صورة ضبابية لرجل طويل الشكل، عيونه متوهجة باللون الأحمر. كان يبتسم ابتسامة شيطانية، وكأن كل شيء في الغرفة كان يتنفس معه. حاول يوسف أن يصرخ، ولكن صوته اختفى في الهواء
قال الكائن بصوت منخفض، ولكنه واضح: “لقد دخلت عالمنا الآن، ولن تخرج أبدًا.”

شعر يوسف في ذلك الوقت ان هذه النهاية وان هذه نهاية حياته في عالم البشر.

ثم بدأ يسمع أصوات خطوات ثقيلة تقترب منه من جميع الجهات. كانت همسات الجن تزداد وتختلط مع أصوات الصراخ البعيد، وكأن هناك أرواحًا معلقة بين الجدران.
..تسارعت ضربات قلبه، وكان يشعر وكأن الأبواب تغلق عليه واحدة تلو الأخرى. حاول الهروب من المكان، ولكن كلما ركض إلى باب، كان يكتشف أن الطريق مسدود. كان المنزل كله قد تحول إلى متاهة لا نهاية لها.

في اللحظة التي بدأ فيها اليأس يسيطر عليه، شعر بشيء بارد على جسده. نزلت يد غير مرئية على كتفه، وهمس الصوت مرة أخرى في أذنه: “نحن هنا من أجل روحك، يوسف.”

وفي اللحظة التالية، اختفى يوسف من الوجود، وكأن الأرض ابتلعته. لم يعثر عليه أحد بعد ذلك اليوم، وظل المنزل مهجورًا، لكن السكان المحليين قالوا إنهم يسمعون في الليالي العاصفة همسات غريبة قادمة من هناك.
ومنذ تلك الحادثة، أصبح المنزل معروفًا باسم “بيت الهمسات”، وأصبح حديث الجميع في البلدة. كان الجميع يعلمون أن يوسف لم يكن أول من دخل ذلك المنزل الملعون، ولن يكون آخر من يغرق في الظلام الأبدي لعالم الجن.

Exit mobile version