عندما لا ندري ما هي الحياة، لابد أن نعرف ما هو الموت


“عندما لا ندري ما هي الحياة، لابد أن نعرف ما هو الموت”

مقدمة

الحياة والموت هما وجهان لرحلة الإنسان على الأرض، يبدأ أحدهما بالميلاد وينتهي الآخر بالفناء، ليعبر الإنسان إلى عالم آخر لا يعرفه إلا من خلقه. إذا عجز الإنسان عن فهم معنى الحياة وسر وجودها، فإن إدراك حقيقة الموت يصبح نافذة ليتأمل المغزى الأعمق للحياة. الإسلام وضع للإنسان تصورًا واضحًا عن الموت والحياة، وحثه على أن يجعل من هذه المعرفة منطلقًا لبناء حياة واعية تعمرها الطاعة والعمل الصالح.


الموت في القرآن الكريم

القرآن الكريم يلفت الأنظار دائمًا إلى الموت كحقيقة مطلقة لا مفر منها. يقول الله تعالى:
“كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (سورة آل عمران: 185).
هذه الآية تضع الموت في سياق التذكير بحقيقة الدنيا، بأنها دار عبور، وأن الفوز الحقيقي هو النجاة في الآخرة.

وفي موضع آخر، يقول الله تعالى:
“وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ” (سورة ص: 27).
تذكير بأن الحياة ليست عبثًا، بل هي وسيلة للوصول إلى الغاية الكبرى التي تظهر جلية عند الموت.


الموت في السنة النبوية

أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تجعل الموت معلمًا هامًا للحياة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
“أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، يَعْنِي الْمَوْتَ” (رواه الترمذي).
هذا الحديث يحث الإنسان على استحضار الموت في حياته ليكون دافعًا للعمل والابتعاد عن الغفلة.

وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم:
“الكَيِّسُ مَن دانَ نَفسَهُ، وعمِلَ لما بَعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أَتبَعَ نَفسَهُ هَواهَا، وتَمنَّى على اللهِ” (رواه الترمذي).
الحديث يوضح أن الاستعداد للموت والعمل لما بعده هو قمة الحكمة والوعي.


الموت في الأدب العربي القديم

الشعر العربي القديم يعكس فلسفة عميقة تجاه الموت والحياة. يقول أبو العلاء المعري:
“خفف الوطءَ ما أظنُّ أديمَ الـ
أرض إلا من هذه الأجسادِ”

المعري يدعو في هذا البيت إلى التأمل في حقيقة الموت وأن الأرض تحمل في طياتها بقايا من عاشوا قبلنا، في تذكير مستمر بفناء الإنسان.

ويقول آخر:
“هو الموتُ فاصنعْ كلَّ ما أنتَ صانعُ
فما الباقي إلا الثناءُ المُوسعُ”

هذا البيت يدعو إلى اغتنام الحياة بعمل الخير، لأن ما يبقى بعد الموت هو الأثر الطيب والذكر الحسن.


كيف يدعونا الموت لفهم الحياة؟

الموت يدعو الإنسان لإعادة تقييم أولوياته، لتصبح الحياة دار عمل وليس دار أمل زائف. يقول الله تعالى:
“وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا” (سورة القصص: 77).
الآية توازن بين متطلبات الدنيا والآخرة، مما يجعل الموت تذكيرًا دائمًا بالغاية النهائية للحياة.

وقال الحسن البصري رحمه الله:
“إنما أنت أيام، كلما مضى يوم مضى بعضك.”
الموت يجعل الإنسان يدرك قيمة الوقت، وأن كل لحظة تقربه إلى نهايته.


الخاتمة

“عندما لا ندري ما هي الحياة، لابد أن نعرف ما هو الموت”. هذا القول يعكس حكمة عميقة بأن فهم الموت هو المفتاح لفهم الحياة. الإسلام علمنا أن الموت ليس نهاية، بل بداية لرحلة أخرى، وأن الاستعداد له بالعمل الصالح هو السبيل إلى حياة أبدية سعيدة. فلنجعل من ذكر الموت دافعًا للعمل، ولنتذكر أن “الحياة ما هي إلا جسر نعبر به إلى دار الخلود.”


Exit mobile version